فصل: تفسير الآيات رقم (45- 47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

ولمَّا بيَّن الحق تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون، ونهاية سوء حالهم، عند إتيانه، ونعى عليهم جهلهم بذلك، وإعراضهم عند ذكر ربهم، الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار، أمَرَ نبيه- عليه الصلاة والسلام- بأن يخبرهم أن ما ينذرهم به، مما يستعجلونه، إنما هو بالوحي، لا من عنده‏.‏

قلت‏:‏ مَن قرأ‏:‏ ‏{‏يَسمع‏}‏ بفتح الياء، فالصُّم‏:‏ فاعل، والدعاء‏:‏ مفعول، ومن قرأ بضم التاء، رباعي؛ فالصم‏:‏ مفعول أول، والدعاء‏:‏ مفعول ثان‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏مثقال‏}‏؛ بضم اللام، فكان تامة، وبالنصب‏:‏ خبر كان، أي‏:‏ وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد ‏{‏إِنما أُنذِرُكُم‏}‏ وأخوفكم من العذاب الذي تستعجلونه، أو بالساعة الموعودة، ‏{‏بالوحي‏}‏ القرآني الصادق، الناطق بإتيانه، وفظاعة شأنه، أي‏:‏ إنما شأني أن أُنذركم بالإخبار به، لا بإتيانه؛ فإنه مخالف للحكمة الإلهية؛ إذ الإيمان برهاني لا عياني، فإذا أَنذرتَهم فلا يسمع إنذارك إلا من سبقت له العناية، دون من سبق له الشقاء، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يسمع الصمُّ الدعاءَ‏}‏ أي‏:‏ الإنذار، أو لا تُسمع أنت الصمَّ الدعاءَ ‏{‏إِذا ما يُنذَرُون‏}‏؛ يُخوَّفون، واللام في للعهد، وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين، والأصل‏:‏ ولا يسمعون إنذارك إذا يُنذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ إشارة إلى تصاممهم وسد أسماعهم إذا أنذروا، وتسجيلاً عليهم بذلك‏.‏ وفي التعبير بالدعاء، دون الكلام في الإنذار، إشارة إلى تناهي صممهم في حال الإنذار، فإن الدعاء من شأنه أن يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه، فإذا لم يسمعوا، مع هذه الحالة، يكون صممهم في غايةٍ لا غاية ورائها‏.‏

‏{‏ولَئِنْ مسّتْهم نفحةٌ‏}‏ أي‏:‏ دفعة يسيرة ‏{‏من عذاب ربك‏}‏ أي‏:‏ كائنة منه، ‏{‏ليقولنَّ يا ويلنا إِنا كنا ظالمين‏}‏، وهذا بيان لسرعة تأثيرهم من مجيء نفس العذاب، إثر بيان عدم تأثرهم من مجرد الإخبار به، لانهماكهم في الغفلة، أي‏:‏ والله لئن أصابهم أدنى شيء من هذا العذاب الذي يُنذرون به، لذلوا، ودَعوا بالويل على أنفسهم، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصامموا وأعرضوا‏.‏ وقد بُولغ في الكلام، حيث عبَّر بالمس والنفح؛ لأن النفح يدل على القلة، فأصل النفح‏:‏ هبوب رائحة الشيء، يُقال‏:‏ نفحه بعطية، إذا أعطاه شيئًا يسيرًا، مع أن بناءها للمرة مؤكد لقلتها‏.‏

ثم بيَّن ما يقع عند إتيان ما أنذروه، فقال‏:‏ ‏{‏ونضع الموازينَ القِسْطَ‏}‏ أي‏:‏ نقيم الموازين العادلة التي تُوزن بها الأعمال، وهو جمع ميزان، وهو ما يوزن به الشيء ليُعرف كمِّيته‏.‏ وعن الحسن‏:‏ «هو ميزان له كفتان ولسان»، وإنما جمع الموازين؛ لتعظيم شأنها، والوزن لصحائف الأعمال في قول، وقيل‏:‏ وضع الميزان كناية عن تحقيق العدل، والجزاء على حسب الأعمال‏.‏

وإفراد القسط؛ لأنه مصدر وصف به؛ للمبالغة، كأنها في نفسها قسط، أو على حذف مضاف، أي‏:‏ ذوات القسط‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ليوم القيامة‏}‏ أي‏:‏ لأهل يوم القيامة، أي‏:‏ لأجلهم، أو في يوم القيامة، ‏{‏فلا تُظلم نفسٌ شيئًا‏}‏ من الظلم، ولا تنقص حقًا من حقوقها، بل يُؤتى كل ذي حق حقه، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر‏.‏

‏{‏وإِن كان مثقالَ حبةٍ من خَرْدَلٍ‏}‏ أي‏:‏ وإن كان الشيء أو العمل مثقال حبة من خردل، ‏{‏أتينا بها‏}‏‏:‏ أحضرناها وجازينا عليها، وأنث ضمير المثقال؛ لإضافته إلى حبة، ‏{‏وكفى بنا حاسبين‏}‏، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا، أو عالمين حافظين، لأن من حسب شيئًا علمه وحفظه، قاله ابن عباس- رضي الله عنهما-‏.‏

الإشارة‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم يُنذر الناس ويذكّرهم بالوحي التنزيلي، وبقي خلفاؤه يذكرون بالوحي الإلهامي، موافقُا للتنزيلي، ولا يسمع وعظهم ويحضر مجالسهم إلا من سبقت له سابقة العناية، وأما من انتكبت عنه العناية تنكب مجالسهم، وتصامم عن وعظهم وتذكيرهم، ولا يسمع الصمُّ الدعاء إذا ما ينذرون، ولا يندمون إلا حين تنزل بهم الأهوال، ولا ينفع الندم وقد جف القلم، وذلك حين تُوضع موازين الأعمال، فتثقل أعمال المخلصين، وتخف أعمال المخلَّطين، ولا تُوضع الموازين إلا لأهل النفوس الموجودة، وأما من غاب عن نفسه في شهود محبوبه، لفنائه في شهوده، وانطوائه في وجوده، فلا ينصب له ميزان؛ إذ لا يشهد لنفسه حسًا ولا فعلاً ولا تركًا، وإنما الفعل كله للواحد القهار‏.‏ ويكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه‏.‏ آمين‏.‏

ثم شرع في تفصيل ما أجمل في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ‏}‏، ‏[‏الأنبياء‏:‏ 7‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَهْلَكْنَا المسرفين‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 9‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقانَ وضياءً وذِكْرًا للمتقين‏}‏، هذه الأوصاف كلها للتوراة، فهي فرقان بين الحق والباطل، وضياء يستضاء به، ويتوصل به إلى سبيل النجاة، وذِكْرًا، أي‏:‏ شرفًا، أو وعظًا وتذكيرًا‏.‏ وتوكيده بالقسم؛ لإظهار كمال الاعتناء به، أي‏:‏ والله لقد آتيناهما وحيًا ساطعًا وكتابًا جامعًا بين كونه فارقًا بين الحق والباطل، وضياء يُستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، وذكرًا ينتفع به الناس، أو شرفًا لمن عمل به، وتخصيص المتقين بالذكر؛ لأنهم المستضيئُون بأنواره، المغتنمون لمغانم آثاره، أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع والأحكام، ودخلت الواو في الصفات، كقوله تعالى ‏{‏وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 39‏]‏، وتقول‏:‏ مررت بزيد الكريم والعالم والصالح‏.‏

ثم وصف المتقين أو مدحهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يخشَون ربهم‏}‏، حال كونهم ‏{‏بالغيب‏}‏ أي‏:‏ يخافون عذابه تعالى، وهو غائب عنهم غيرُ مشاهَدٍ لهم، ففيه تعريض بالكفرة، حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يُشاهدوا ما أنذروه‏.‏ أو يخافون الله في الخلاء كما يخافونه بين الناس، أو يخافونه بمجرد الإيمان به غير مشاهدين له، ‏{‏وهُمْ من الساعة مشفقون‏}‏ أي‏:‏ خائفون معتنون بالتأهي لها‏.‏ وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر، بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق؛ للإيذان بكونها أعظم المخلوقات، وللتنصيص على الاتصاف بضد ما اتصف به الكفرة الغافلون عنها، وإيثار الجملة الاسمية؛ للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه لهم‏.‏

‏{‏وهذا‏}‏ أي‏:‏ القرآن الكريم، أشير إليه بهذا؛ إيذانًا بغاية وضوح أمره، ‏{‏ذِكْرٌ‏}‏ يتذكر به من تذكر، وصفه ببعض أوصاف التوراة؛ لموافقته له في الإنزال، ولما مرّ في صدر السورة من قوله‏:‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 2‏]‏ الخ، ‏{‏مباركٌ‏}‏؛ كثير الخير، غزير النفع، يتبرك به على الدوام‏.‏ قال القشيري‏:‏ وصْفُه بالبركة هو إخبارٌ عن ثباته، من قولهم‏:‏ بَرَكَ البعيرُ، وبَرَكَ الطائرُ على الماءِ، أي‏:‏ داومَ‏.‏ وهذا الكتاب دائم، لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفِه، وهو دال على كلامه القديم، فلا انتهاء له، كما لا ابتداء له ولا انتهاء لكلامه‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صفة ثانية للكتاب ‏{‏أفأنتم له منكرون‏}‏؛ استفهام توبيخي، أي‏:‏ جاحدون أنه منزل من عند الله، والمعنى‏:‏ أبَعْدَ أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة، في الإنزال والإيحاء، أنتم منكرون؛ لكونه منزلاً من عندنا؛ فإن ذلك، بعد ملاحظة التوراة، مما لا مساغ له أصلاً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما وصف به التوراة وصف به كتابنا العزيز، قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ ٍ، وقال‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً‏}‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ 174‏]‏، وقال هنا‏:‏ ‏{‏وهذا ذكر مبارك‏}‏، فزاده البركة؛ لعموم خيره ودوام نفعه، وخصوصًا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب‏:‏ قال القشيري‏:‏ والخشية بالغيب‏:‏ إطراقُ السريرة في أول الحضور، باستشعار الوَجَلِ من جريان سوء الأدب، والحذَرُ من أنْ يبدوَ من الغيبِ بَغَتَات التقدير، مما يوجِبُ حجبة العبد‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذ قال‏}‏‏:‏ ظرف لآتينا، أو لرُشْدَه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا إِبراهيم رُشدَه‏}‏ أي‏:‏ الرشد اللائق به وبأمثاله من كُبراء الرسل، وهو الاهتداء الكامل، المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي، مع الاقتدار على إصلاح الأمة وإرشادها بسياسة النبوة والوحي الإلهي، ‏{‏من قبلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، وتقديم ذكرهما، لما بين التوراة والقرآن من الشبه التام‏.‏ وقيل‏:‏ من قبل إنزال القرآن، أو من قبل استنبائه، أو من قبل بلوغه، ‏{‏وكُنا به عَالمين‏}‏ أي‏:‏ بأنه أهل لما آتيناه، أو عالمين برُشده، وما خصصناه به من الهداية الخاصة‏.‏ ‏{‏إذ قال لأبيه وقومه‏}‏ أي‏:‏ آتيناه ذلك حين قال لأبيه، أو اذكر وقت قوله لهم‏:‏ ‏{‏ما هذه التماثيلُ‏}‏ أي‏:‏ الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان، وفيه تجاهل بهم؛ تحقيرًا لها، مع علمه بتعظيمهم لها؛ توبيخًا لهم على إجلالها مع كونها خشبًا وأحجارًا لا تضر ولا تنفع، ‏{‏التي أنتم لها عاكفون‏}‏ أي‏:‏ لأجل عبادتها مقيمون، فلما عجزوا عن الدليل ‏{‏قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين‏}‏ فقلدناهم، فأبطله عليه السلام، على طريقة التوكيد بالقسم، فقال‏:‏ ‏{‏لقد كنتم أنتم وآباؤكم‏}‏ الذين سنُّوا لكم هذه السُّنَّة الباطلة، ‏{‏في ضلال مبين‏}‏‏:‏ ظاهر بيِّن، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء، أي‏:‏ والله لقد كنتم مستقرين في ضلال عظيم ظاهر؛ لعدم استناده إلى دليل، فالتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحَقِّية في الجملة، لا فيما اتضح بطلانه، سيما في أمر التوحيد‏.‏

‏{‏قالوا أجئتنا بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالجد، ‏{‏أم أنت من اللاعبين‏}‏، فتقول ما تقول على الملاعبة والمزاح‏.‏ والمعنى‏:‏ أجادٌ أنتَ، أم لاعب فيما تقول‏؟‏ قالوا ذلك؛ استعظامًا منهم لإنكاره، واستبعادًا لكون ما هم عليه ضلال، وتعجيبًا من تضليله إياهم‏.‏

ثم أضرب عنهم؛ مخبرًا بأنه جاد فيما قال، غير لاعب، بإقامة البرهان على بطلان ما ادعوه فقال‏:‏ ‏{‏بل ربُّكم ربُّ السماواتِ والأرض الذي فطرهنَّ‏}‏، لا التماثيل التي صورتم‏.‏ وقيل‏:‏ هو إضراب عما بنوا عليه مقالتهم؛ من اعتقاد كونها أربابًا لهم، كما يُفصح عنه قولهم‏:‏ ‏{‏نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 71‏]‏، كأنه قال‏:‏ ليس الأمر كذلك، بل ربكم رب السماوات والأرض الذي خلقهن وأنشأهن، فالضمير للسماوات والأرض، وصفَه تعالى بإيجادهن، إثر وصفه تعالى بربوبيته لهن؛ تحقيقًا للحق، وتنبيهًا على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية، أي‏:‏ أنشأهن بما فيهن من المخلوقات، التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه، من غير مثالٍ يُحتَذِيه، ولا قانون ينتحيه‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير للتماثيل، وهو أدخل في تضليلهم، وأظهر في إلزام الحجة عليهم؛ لِمَا فيه من التصريح المُغني عن التأمل في كون ما يعبدونه من المخلوقات، والأول أقرب‏.‏

ثم قال عليه السلام‏:‏ ‏{‏وأنا على ذلكم‏}‏ الذي ذكرتُ‏:‏ من كون ربكم رَبَّ السماوات والأرض، دون ما عداه، كائنًا ما كان، ‏{‏من الشاهدين‏}‏ أي‏:‏ العالمين به على سبيل الحقيقة، المبرهنين عليه، فإن الشاهد على الشيء‏:‏ مَنْ تحققه وبرهن عليه، كأنه قال‏:‏ وأنا أعلم ذلك، وأتحققه، وأُبرهن عليه، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ زخارف الدنيا وبهجتها، من تشييد بناء، وتزويق سقف وحيطان، وإنشاء غروس وبساتين، وجمع أموال، وتربية جاه، كلها تماثيل لا حقيقة لها، فانية لا دوام لها‏.‏ فمن عكف عليها، وأولع بخدمتها وجمعها وتحصيلها، كان عابدًا لها، فينبغي لذي الرشد والعقل الوافر، الذي تحرر منها، أن يُنكر عليهم، ويقول لهم‏:‏ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، فإن قالوا‏:‏ وجدنا أباءنا يفعلون هذا، وعلماءنا مثلنا، فليقل لهم‏:‏ لقد كنتم وآباؤكم وعلماؤكم في ضلال مبين، عما كان عليه الأنبياء والأولياء والسلف الصالح‏.‏ فإن قالوا‏:‏ أجادٌّ أنت أم لا‏؟‏ فليقل‏:‏ بل ربكم الذي ينبغي أن يُفرد بالمحبة والخدمة، وهو رب السماوات والأرض، لا ما أنتم عليه من محبة الدنيا وبهجتها، وأنا على ذلكم من الشاهدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 67‏]‏

‏{‏وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ‏(‏58‏)‏ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏62‏)‏ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ‏(‏63‏)‏ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏64‏)‏ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ‏(‏66‏)‏ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مَن فَعَلَ‏}‏‏:‏ استفهام، وقيل‏:‏ موصولة، و‏{‏إنه‏}‏‏:‏ خبرها، أي‏:‏ الذي فعل هذا معدود من الظلمة، و‏{‏يذْكُرهم‏}‏‏:‏ إما مفعول ثان لسمع؛ لتعلقه بالذات، على قول، أو صفة لفتى‏.‏ و‏{‏يُقال‏}‏‏:‏ صفة أخرى لفتى‏.‏ و‏{‏إبراهيم‏}‏‏:‏ نائب فاعل يُقال‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ حاكيًا عن خليله عليه السلام‏:‏ ‏{‏وتالله لأكيدنّ أصنامكم‏}‏ أي‏:‏ لأمكرنّ بها، وأجتهد في كسرها، وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز، وتوقفه على الحيل والسياسة، وذلك الكيد ‏{‏بعد أن تُولُّوا مُدبرين‏}‏؛ بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ إنما قاله سرًا، ولم يسمعه إلا رجلٌ فأفشاه عليه، وقال‏:‏ سمعت فتى يذكرهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان لهم في كل سنة مجمعٌ وعيد، فإذا رجعوا من عيدهم دخلوا على أصنامهم فسجدوا لها، وقال أبو إبراهيم‏:‏ يا إبراهيم، لو خرجتَ معنا إلى عيدنا لأعجبك، فخرج إلى بعض الطريق، وقال‏:‏ إني سقيم، أَشتكي رجلي‏.‏ فلما مضوا نادى في آخرهم- وقد بقي ضعفاء الناس-‏:‏ ‏{‏تالله لأكيدنَّ أصنامكم بعد أن تُولُّوا مدبرين‏}‏ فسمعوه، ثم دخل بيت الأصنام، فوجد طعاماً كانوا يضعونه عندها للبركة، فإذا رجعوا أكلوه، فقال‏:‏ ‏{‏ألا تأكلون‏}‏ ‏؟‏ استهزاءً بها، فلم يجبه أحد، فقال‏:‏ ما لكم لا تنطقون ‏{‏فَرَاغَ‏}‏؛ مال ‏{‏عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين‏}‏ ‏[‏الصَّافات‏:‏ 93‏]‏‏.‏

‏{‏فجعلهم جُذاذًا‏}‏ أي‏:‏ قطعًا، جمع جذيذ‏.‏ وفيه لغتان‏:‏ الكسر، كخفيف وخِفاف، والضم؛ كحطيم وحُطام‏.‏ رُوي أنها كانت سبعين صنمًا مصطفة‏.‏ وثَمَّ صنم عظيم مستقبل الباب، وكان من ذهب، وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسر الكل بفأس كان بيده، ولم يُبق إلا الكبير، علّق الفأس في عنقه، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا كبيرًا لهم‏}‏ أي‏:‏ للأصنام ‏{‏لعلهم إِليه‏}‏ أي‏:‏ إلى إبراهيم عليه السلام ‏{‏يرجعون‏}‏؛ فيحاجهم بما سيأتي فيغلبهم، أو إلى دينه؛ إذا قامت الحجة عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الكبير يسألونه عن الكاسر؛ لأن من شأن الكبير أن يرجع إليه في الملمات‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الله تعالى وتوحيده، عند تحققهم بعجز آلهتهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم‏.‏

فلما رجعوا من عيدهم، ورأوا ما صُنِع بآلهتهم، ‏{‏قالوا مَن فعلَ هذا بآلهتنا‏}‏، على طريق الإنكار والتوبيخ، ‏{‏إِنه لَمِنَ الظالمين‏}‏ أي‏:‏ لشديد الظلم؛ لجرأته على الآلهة، التي هي عندهم في غاية التوقير والتعظيم‏.‏ أو لَمِنَ الظالمين حيث عَرَّض نفسه للهلكة، ‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ بعضٌ منهم، وهو من سمع مقالته‏:‏ ‏{‏سمعنا فتىً يذكرهم‏}‏ أي‏:‏ يعيبهم، فلعله فعل ذلك بها، ‏{‏يُقال له إِبراهيم‏}‏ أي‏:‏ يقال له هذا الاسم‏.‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ السائلون‏:‏ ‏{‏فأْتُوا به على أعين الناس‏}‏ أي‏:‏ بمرأى منهم، بحيث يكون نصبَ أعينهم، لا يكاد يخفى على أحد، ‏{‏لعلهم يشهدون‏}‏ عليه بما سُمع منه، أو بما فعله، كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة، أو يَحضرون عقوبتنا له‏.‏

فلما أحضروه ‏{‏قالوا أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا يا إِبراهيم‏}‏ ‏؟‏ واختصر إحضاره؛ للتنبيه على أن إتيانهم به، ومسارعتهم إلى ذلك، أمر محقق غني عن البيان ‏{‏قال‏}‏ إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏بل فعله كبيرُهُم هذا‏}‏، غار أن يُعبدوا معه، مشيرًا إلى الذي لم يكسره‏.‏ وعن الكسائي‏:‏ أنه يقف على ‏{‏بل فعله‏}‏ أي‏:‏ فعله من فعله، ثم ابتدأ‏:‏ كبيرهم هذا يُخبركم فسلوه‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، والأكثر‏:‏ أنه لا وقف، والفاعل‏:‏ كبيرهم‏.‏ و«هذا»‏:‏ بدل، أو وصف، ونسبَ الفعل إلى كبيرهم، وقصده تقريره لنفسه وإسناده لها، على أسلوب تعريضي؛ تبكيتًا لهم، وإلزامًا للحجة عليهم، لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح عَلِموا عجز كبيرهم، وأنه لا يصلح للألوهية، وهذا كما لو كتبت كتابًا بخط أنيق، وأنت شهير بحسن الخط، ومعك صاحب أُميّ، فقال لك قائل‏:‏ أأنت كتبت هذا‏؟‏ فتقول‏:‏ بل كتبه هذا، وهو يعلم أنه أُميّ لا يُحسن الكتابة، فهو تقرير لإثبات الكتابة لك على أبلغ وجه‏.‏

قال الكواشي‏:‏ ومن الجائز أن يكون أَذِنَ الله تعالى له في ذلك كما أَذِنَ ليوسف حين نادى على إخوته‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ ‏[‏يُوسُف‏:‏ 70‏]‏، ولم يكونوا سارقين؛ لِمَا في ذلك من المصلحة؛ لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح، وسألوا عَلِمُوا أن كبيرهم لم يفعل شيئًا، وأنه عاجز عن النطق، فضلاً عن الفعل، فلا يجوز أن يُعبد، ولا يستحق العبادة إلا القادر الفعال‏.‏ ه‏.‏

وقيل‏:‏ اسند الفعل إلى كبيرهم؛ لأنه الحامل له على كسرها، حيث رآه يُعظَّم أكثر منها، ويُعبد من دون الله، فاشتد غضبه حتى كسرها، وهو بعيد؛ إذ لو كان كذلك لكسره أولاً، فتحصل أنه عليه السلام إنما قصد التعريض بعبادتهم، لا الإخبار المحض، حتى يكون كذبًا‏.‏ فإن قلت‏:‏ قد ورد في الحديث أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن معنى ذلك‏:‏ أنه قال قولاً ظاهره الكذب، وإن كان القصد به معنى آخر‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏فاسْألوهم‏}‏ عن حالهم، ‏{‏إِن كانوا ينطقون‏}‏ فتجيبكم بمن كسرهم، وأنتم تعلمون عجزهم عنه، ‏{‏فَرَجعوا إِلى أنفسهم‏}‏ أي‏:‏ رجعوا إلى عقولهم، وتفكروا بقلوبهم، وتذكروا أنَّ ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإخبار بمن كسره، فكيف يستحق أن يكون معبودًا‏؟‏ ‏{‏فقالوا‏}‏ أي‏:‏ قال بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏إِنكم أنتم الظالمون‏}‏ على الحقيقة، حيث عبدتم من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع؛ لأنَّ من لا يدفع عن رأسه الفأس، فكيف يدفع عن عابده البأس‏!‏ فأنتم الظالمون بعبادتها؛ لا من ظلمتموه بقولكم‏:‏ ‏{‏إنه لمن الظالمين‏}‏‏.‏ أو‏:‏ أنتم الظالمون لا من كسرها، ‏{‏ثم نُكِسُوا على رؤوسهم‏}‏، وردّوا إلى أسفل سافلين، أُجري الحقُّ على لسانهم في القول الأول، ثم أدركتهم الشقاوة، أي‏:‏ انقلبوا إلى المجادلة، بعدما استقاموا بالمراجعة، شَبَّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه، قائلين‏:‏ ‏{‏لقد علمتَ‏}‏ يا إبراهيم ‏{‏ما هؤلاء ينطقون‏}‏، فكيف تأمرنا بسؤالها‏؟‏

‏{‏قال‏}‏؛ مبكتًا لهم وتوبيخًا‏:‏ ‏{‏أفتعبدون من دون الله‏}‏ أي‏:‏ متجاوزين عبادته تعالى إلى ‏{‏ما لا ينفعكم شيئًا‏}‏ من النفع، ‏{‏ولا يضُركُم‏}‏ إن لم تعبدوه، فإنَّ العلم بالحالة المنافية للألوهية مما يُوجب اجتناب عبادته، ‏{‏أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله‏}‏، أُفّ‏:‏ اسم صوت تدل على التضجر، تَضجر عليه السلام من إصرارهم على الباطل، بعد انقطاع عذرهم ووضوح الحق، فأفَّف بهم وبأصنامهم، أي‏:‏ لكم ولأصنامكم هذا التأفف، ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ أن من هذا وصفه لا يستحق أن يكون إلهًا‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ من أراد أن يكون إبراهيميًا حنيفيًا فليكسر أصنام نفسه، وهي ما كانت تهواه وتميل إليه من الحظوظ النفسانية والشهوات الجسمانية، حتى تنقلب حقوقًا ربانية، فحينئذ يريه الحق ملكوتَ السماواتِ والأرض، ويكون من الموقنين‏.‏، وأمُّ الشهوات‏:‏ حب الدنيا، ورأسها‏:‏ حب الرئاسة والجاه، وأكبر الأصنام‏:‏ وجودك الحسي، فلا حجاب أعظم منه، ولذلك قيل‏:‏

وُجودُكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ *** فإن غبتَ عنه، وكسرته، غابت عنك جميعُ العوالم الحسية، وشهدت أسرار المعاني القدسية، فشهدت أسرار الذات وأنوار الصفات، وإلى هذا المعنى أشار ابن العريف رضي الله عنه بقوله‏:‏

بَدَا لَكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتتَامُهُ *** وَلاَحَ صَبَاحُ كُنْتَ أنْتَ ظَلاَمُهُ

فَأنْتَ حِجَابُ القَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيبهِ *** وَلَوْلاَكَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ

فَإنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَتْ *** عَلَى مَوْكبِ الكَشْفِ المصُونِ خِيَامُهُ

وَجَاء حَدِيثٌ لا يُمَلُّ سَمَاعُهُ *** شَهِيٌّ إليْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ

إذَا سَمِعَتْهُ النَّفْسُ طَابَ نَعِيمُهَا *** وَزَالَ عَنِ القَلْبِ المُعَنَّى غَرامُهُ

فالغيبة عن وجود العبد فناء، والرجوع إليه لوظائف العبودية بقاء، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا كبيرًا لهم لعلهم إليه يَرجعون‏}‏ أي‏:‏ إلا كبير الأصنام، وهو وجودك الوهمي، فلا ينبغي الغيبة عنه بالكلية حتى يترك وظائف العبودية والقيام بحقوق البشرية، فإنَّ هذا اصطلام، بل ينبغي ملاحظته، لعله يقع الرجوع إليه في مقام البقاء، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قالوا حرِّقوه‏}‏ أي‏:‏ قال بعضهم لبعض، لَمَّا عجزوا عن المحاججة، وضاقت عليهم الحيل، وعييت بهم العلل، وهذا دَيْدنُ المبطل المحجوج، إذا قُرعَت شبهه بالحجة القاطعة وافتضح، لم يبق له حينئذ إلا المناصبة والمعاداة، فناصبوا إبراهيم عليه السلام، وقالوا حرِّقوه بالنار؛ لأنه أشد العقوبات، ‏{‏وانصُروا آلهتكم‏}‏ بالانتقام لها ‏{‏إن كنتم فاعلين‏}‏ للنصر، أي‏:‏ إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرًا مؤزرًا، فاختاروا له أهول المعاقبات، وهو الإحراق، وإلاَّ فقد فرطتم في نصرتها، والذي أشار بالإحراق نمرود، أو رجل من أكراد فارس، اسمه «هيزن»، وقيل‏:‏ «هدير»، خسفت به الأرض، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة‏.‏

رُوِيَ أنهم، لما أجمعوا على حرقه عليه السلام، بنوا له حظيرة بكُوثَى- قرية من قرى الأنباط بالعراق- فجمعوا صلاب الحطب من أصناف الخشب، مدة أربعين يومًا، وقيل‏:‏ شهرًا، حتى إن المرأة تنذر‏:‏ لَئِنْ أصابت حاجتها لتَحِطَبنَّ في نار إبراهيم‏.‏ ثم أوقدوا نارًا عظيمة، لا يكاد يحومُ حولها أحد، حتى إن كانت الطير لتمرُ بها، وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها، ولم يقدر أحد أن يقربها، فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها، فأتى إبليس وعلمهم علمَ المنجنيق، فعملوه‏.‏ وقيل‏:‏ صنعه لهم رجل من الأكراد، فخسف الله تعالى به في الأرض مثل الآخر، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام، فوضعوه فيه مغلولاً مقيدًا مجردًا، فصاحت السماءُ والأرضُ ومن فيها من الملائكة‏:‏ يا ربنا، إبراهيم، ليس في الأرض أحد يعبدك غيرُه، يُحرق فيك، فَأذَنْ لنا في نصرته، فقال لهم‏:‏ إن استغاث بواحد منكم فأغيثوه، فرموا به فيها من مكان شاسع، فقال له جبريل عليه السلام، وهو في الهواء‏:‏ ألك حاجة‏؟‏ فقال‏:‏ أما إليك فلا‏.‏ قال‏:‏ فسل ربك‏.‏ فقال‏:‏ حسبي من سؤالي علمه بحالي، فرفع همته عن الخلق، واكتفى بالواحد الحق، فجعل الله الخطيرةَ روضة‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إِبراهيم‏}‏ أي‏:‏ كوني ذات برد وسلام، أي‏:‏ ابردي بردًا غير ضار‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لو لم يقل ‏{‏وسلامًا‏}‏ لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت، ظنت أن الخطاب توجه لها، فما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار، ولم تبق دابة إلا أتت تطفئ عنه النار، إلا الوزغ‏.‏ فلذلك أمر نبيُنا صلى الله عليه وسلم‏.‏ بقتلها، وسماها فويسقا‏.‏ قال السدي‏:‏ فأخذت الملائكة بضَبْعَي إبراهيم وأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس‏.‏ قال كعب‏:‏ ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه‏.‏ ورُوي أنه عليه السلام مكث فيها سبعة أيام، وقيل‏:‏ أربعين، وقيل‏:‏ خمسين، والأول أقرب‏.‏

قال إبراهيم عليه السلام‏:‏ ما كنتُ أيامًا قط أنعم مني من الأيام التي كنتُ فيها‏.‏ قال ابن بسار‏:‏ وبعث الله تعالى ملك الظل فقعد إلى جنبه يُؤنسه، قالوا‏:‏ وبعث الله بقميص من حرير الجنة‏.‏ قلت‏:‏ وقد تقدم ذكره في سورة يوسف‏.‏ وأتاه جبريل فقال‏:‏ إن ربك يقول‏:‏ أما علمت أن النار لا تضر أحبائي‏.‏ فنظر نمرود من صرحه، فأشرف عليه، فرآه جالسًا في روضة مونقة، ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة، والنار محيطة به، فنادى‏:‏ يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فاخرج، فقام يمشي فخرج منها، فاستقبله نمرود وعظَّمه‏.‏ وقال‏:‏ من الرجل الذي رأيتُه معك‏؟‏ قال ذلك ملك الظل، أرسله ربي ليؤنسني، فقال‏:‏ إني مُقرب إلى إلهك قربَانًا لِمَا رأيته من قدرته وعزته فيما صنع بك‏.‏ فقال عليه السلام‏:‏ لا يقبل الله منك ما دُمتَ على دينك هذا، حتى تفارقه إلى ديني، قال‏:‏ لا استطيع ترك ملكي، ولكن سأذبح له أربعة آلاف بقرة، فذبحها، وكف عن إبراهيم عليه السلام‏.‏

قال شعيب الجبائي‏:‏ أُلقِي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة، ولَمَّا علت ما أراد من ذبحه بقيت يومين وماتت في الثالث‏.‏ ه‏.‏ وهذا كما ترى من أكبر المعجزات، فإنَّ انقلاب النار هواء طيبًا، وإن لم يكن بدعًا من قدرة الله، لكنه من أكبر الخوارق، واختلف في كيفية برودتها؛ فقيل‏:‏ إن الله تعالى أزال ما فيها من الحر والإحراق، وقيل‏:‏ دفع الله عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع تَرْكِ ذلك فيها، والله على كل شيء قدير‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأرادوا به كيدًا‏}‏؛ مكرًا عظيمًا في الإضرار، ‏{‏فجعلناهم الأخسرين‏}‏ أي‏:‏ أخسر من كل خاسر، حيث جاء سعيهم في إطفاء نور الحق برهانًا قاطعًا على أنه عليه السلام على الحق، وهم على الباطل، وموجبًا لارتفاع درجته واستحقاقهم للهلاك، فأرسل الله على نمرود وقومه البعوض، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ودخلت بعوضة في دماغ نمرود فأهلكته بعد المحنة الشديدة، وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ أجرى الله تعالى عادته في المتوجه الصادق، إذا أراد الوصول إلى حضرته، أن يبْتَليه قبل أن يُمكنه، ويمتحنه قبل أن يُصافيه؛ لأنَّ محبته تعالى مقرونة بالبلاء، والداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور‏.‏ فإذا رُمِيَ الولي في منجنيق الابتلاء، وألقي في نار الجلال، وتعرضت له الأكوان‏:‏ ألك حاجة‏؟‏ فيقول- إن كان مؤيَدًا-‏:‏ أمَّا إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، فإذا قيل له‏:‏ سله، فيقول‏:‏ علمه بحالي يغني عن سؤالي‏.‏ فلا جرم أن الله تعالى يقول لنار الجلال‏:‏ كوني بردًا وسلامًا على وليي، فينقلب حرها بردًا وسلامًا، فلا يرى أيامًا أحلى من تلك الأيام التي ابتُلي فيها‏.‏

وهذا أمر مجرب مَذُوق، وأما إن التفت إلى التعلق بغير الله تعالى، فإنَّ البلاء يُشدد عليه، أو يخرج من دائرة الولاية، والعياذ بالله‏.‏ فالولي هو الذي يقلب الأعيان بهمته، وبالنور الذي في قلبه، حسية كانت أو معنوية، فيقلب الخوف أمنًا، والحزن سرورًا، والقبض بسطًا، والفاقة غنًى، وهكذا‏.‏‏.‏‏.‏ فحينئذ تنفعل له الأشياء وتطيعه، وتخرق له العوائد، حتى لو ألقي في النار الحسية لبردت‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ كان الخليل منُورًا بنور الله، وكان فعل النار من فعل الله، فغلب نور الصفة على نور الفعل، ولو بقيت النار حتى وصل إليها الخليل لصارت مضمحلة، فعلم الحق ذلك، فقال لها‏:‏ ‏{‏كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم‏}‏ حتى تبقى لظهور معجزته وبيان كرامته‏.‏ ه‏.‏ ومصداق ما ذكره‏:‏ قول النار يوم القيامة للمؤمن‏:‏ جُز فقد أطفأ نورك لهبي، كما ورد‏.‏ والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إلى الأرض‏}‏‏:‏ يتعلق بحال محذوفة، ينساق إليها الكلام، أي‏:‏ ذاهبًا بهما إلى الأرض‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ونجيناه‏}‏ أي‏:‏ إبراهيم ‏{‏ولوطًا‏}‏ ابن أخيه هاران، ذاهبًا بهما من العراق ‏{‏إِلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين‏}‏، وهي أرض الشام‏.‏ وبركاته العامة‏:‏ أنَّ أكثر الأنبياء بُعثوا فيها، فانتشرت في العالمين شرائعهم، التي هي مبادئ الخيرات الدينية والدنيوية، وهي أرض المحشر، فيها يجمع الناس، وفيها ينزل عيسى عليه السلام، وقال أُبي بن كعب‏:‏ ما من ماء عذب إلاَّ وأصله من تحت صخرة بيت المقدس، وهي أرض خِصب، يعيش فيها الفقير والغني‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ خرج إبراهيم من كُوثى من أرض العراق، وخرج معه لوط وسارة، فنزل حَرّان، ثم خرج منها إلى مصر، ثم خرج منها إلى الشام، فنزل السَّبُعَ من أرض فلسطين بزوجه سارة، بنت عمه هاران الأكبر، ونزل لوط عليه السلام بالمؤتفكة، وبينهما مسيرة يوم وليلة، وكلاهما من الشام‏.‏

‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوبَ نافلةً‏}‏ أي‏:‏ وهبنا له إسحاق ولدًا من صلبه، وزاد يعقوب، ولد ولده، نافلة؛ لأنه سأل ولدًا بقوله‏:‏ ‏{‏رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين‏}‏ ‏[‏الصَّافات‏:‏ 100‏]‏ فأُعطيه، وأُعطى يعقوب نافلة، زائدًا على ما سأل؛ لأنه أعطى من غير سؤال، فكأنه تبرعًا‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ واختار بعضهم- على هذا- الوقف على «إسحاق» لبيان المعنى، وهذا ضعيف؛ لأنه معطوفٌ على كل قول‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏نافلة‏}‏ يرجع لهما معًا، أي‏:‏ أعطيناه ولدًا وولد ولد، عطيةً، فيكون حالاً منهما معًا، قيل‏:‏ هو مصدر، كالعاقبة من غير لفظ الفعل، الذي هو ‏{‏وهبنا‏}‏ وقيل‏:‏ اسم، ‏{‏وكُلاًّ‏}‏ أي‏:‏ كل واحد من هؤلاء الأربعة، ‏{‏جعلنا صالحين‏}‏؛ بأن وفقناهم لصلاح الظاهر والباطن، حتى استحقوا الخصوصية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الهجرة سُنَّة من سُنن الأنبياء والأولياء، فكل من لم يجد في بلده من يعينُه على دينه، يجب عليه الانتقال إلى بلدٍ يجد فيها ذلك‏.‏ وكذلك المريد إذا لم يجد قلبه في محل؛ لكثرة عوائده وشواغله بحيث يشوش عليه قلبه فلينتقل إلى بلد تقل فيها العلائق والشواغل، إن وجد فيها من يحرك معهم فنَّه، كان بادية أو حاضرة‏.‏ والغالب أن الحاضرة تكثر فيها العوائد والحظوظ والشهوات، فلا يدخلها المريد حتى يتقوى ويملك نفسه، يأخذ النصيب من كل شيء، ولا ينقص من نصيبه شيء، وقد تقدم هذا مرارًا‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وجعلناهم‏}‏ أي‏:‏ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ‏{‏أئمةً‏}‏ يُقتدى بهم في أمور الدين؛ إجابة لدعوته بقوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِي‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 124‏]‏ أي‏:‏ فاجعل أئمة، ‏{‏يَهدُون‏}‏ الخلق إلى الحق، ‏{‏بأمرِنَا‏}‏ لهم بذلك، وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين، أو يهدون الخلق بإرادتنا ومشيئتنا‏.‏ ‏{‏وأوحينا إِليهم فعلَ الخيرات‏}‏ وهي جميع الأعمال الصالحة، أي‏:‏ أمرناهم أن يفعلوا جميع الخيرات، ليتم كمالهم بانضمام العمل الصالح إلى العلم، وأصله‏:‏ أن يفعلوا الخيرات، ثم فعلَ الخيرات، ‏{‏وإِقامَ الصلاةِ وإِيتاءَ الزكاة‏}‏، وهو من عطف الخاص على العام؛ دلالة على فضله وشرفه، وأصله‏:‏ وإقامة الصلاة، فحذفت التاء المعوضة من إحدى الألفين؛ لقيام المضاف إليه مقامها‏.‏ ‏{‏وكانوا لنا عابدين‏}‏‏:‏ قانتين مُطيعين، لا يخطر ببالهم غير عبادتنا ومشاهدتنا‏.‏ وأنتم يا معشر العرب والعجم من ذريتهم، فاتبعوهم في ذلك‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما يعظم جاه العبد عند الله بثلاثة أمور‏:‏ انحياشه بقلبه إلى الله، ومسارعته إلى ما فيه رضا الله، وإرشاد العباد إلى الله، بدعائهم إلى الله بالحال والمقال، فبقدر ما يقع من هداية الخلق على يديه يعلو مقامه عند الله، إن حصلت المعرفة بالله، وبهذا تعرف شرف مرتبة مشيخة الصوفية، الدالين على الله، الداعين إلى حضرة الله، إن تكلموا وقع كلامهم في قلوب الخلق، فيرجعون إلى الله من ساعتهم، مجالسهم كلها وعظ وتذكير، حالهم يُنهض إلى الله، ومقالهم يدل على الله، ففي ساعة واحدة يتوب على يديهم من الخلق ما لا يتوب على يد العالم في سنين؛ وذلك لإنهاض الحال والمقال، فلا جَرَمَ أنهم أعز الخلق إلى الله، وأعظمهم قدرًا عند الله‏.‏

قال السهروردي في العوارف‏:‏ ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم، إن أحب عباد الله إلى الله يُحَبِّبُونَ الله إلى عباده، ويُحبِّبُون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة» وهذا الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة؛ فإن الشيخ يُحبب الله إلى عباده حقيقة، ويحبب عباد الله إلى الله‏.‏

فأما كونه يُحبب عباد الله إلى الله؛ لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه‏.‏ ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 31‏]‏، ووجه كونه يُحبب الله إلى عباده؛ لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب، ودخل فيها نور العظمة الإلهية، ولاح فيها جمال التوحيد، وذلك ميراث التزكية، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشّمس‏:‏ 9‏]‏، وفلاحها‏:‏ الظفر بمعرفة الله، فإذا عرفه، قطعًا، أحبه وفنى فيه‏.‏

فرتبة المشيخة من أعلى الرتب؛ لأنها خلافة النبوة في الدعوة إلى الله‏.‏

ثم قال‏:‏ فعلى المشايخ وقار لله، وبهم يتأدب المريد ظاهرًا وباطنًا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 90‏]‏، فالمشايخ، لَمَّا اهتَدْوا، أُهِّلُوا للاقتداء بهم، وجُعِلوا أئمة للمتقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاكيًا عن الله عزّ وجلّ‏:‏ «إذا كان الغالبُ على عبدي الاشتغال بي، جعلت همته ولذَّتهُ في ذكري، فإذا جعلت همته ولذته في ذكري، أحبني وأحببته، ورفعتُ الحجابُ فيما بيني وبينه، لا يسهو إذا سَهَا الناسُ، أولئك كلامُهُم كلام الأنبياءِ، أولئك الأبطالُ حقًا، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرضِ عقوبةً أو عذابًا، ذكرتُهم فصرفتُه بهم عنهم» انتهى كلامه رضي الله عنه‏.‏

ومن كلام ذي النون المصري- لمّا تكلم على الأبدال- قال‏:‏ فهمُهم إليه ثائرة، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال لهم‏:‏ إن أتاكم عليل من فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فانصروه، أو آمن مني فحذّروه، أو راغب في مواصلتي فمنوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيس من فضلي فرجُّوه، أو راجٍ لإحساني فبشروه، أو حسن الظن بي فباسطوه، أو مُعظَّم لقدري فعظموه، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه‏.‏ ه‏.‏ وهذه صفة مشايخ التربية على ما شهدناهم، وما شهدنا إلا بما علمنا‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 77‏]‏

‏{‏وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ‏(‏74‏)‏ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ولوطًا‏}‏‏:‏ إما مفعول بمحذوف يُفسره قوله‏:‏ ‏{‏آتيناه‏}‏ أي‏:‏ وآتينا لوطًا، أو‏:‏ باذكر‏.‏ و‏{‏نوحًا‏}‏‏:‏ مفعول باذكر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولوطًا آتيناه حُكمًا‏}‏ أي‏:‏ حكمة، أو نبوة، أو فصْلاً بين الخصوم بالحق، ‏{‏وعلمًا‏}‏ بِنَا وبما ينبغي علمه للأنبياء- عليهم السلام- من علم السياسة، ‏{‏ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائثَ‏}‏؛ اللواطة، وقذف المارة بالحصى، وغيرها، وصفت بصفة أهلها، وأسندت إليها على حذف مضاف، أي‏:‏ من أهل القرية، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إِنهم كانوا قوم سَوْءٍ فاسقين‏}‏‏:‏ خارجين عن طاعة الله ورسوله‏.‏ ‏{‏وأدخلناه في رحمتنا‏}‏ أي‏:‏ في أهل رحمتنا، أو جنتنا، ‏{‏إنه من الصالحين‏}‏ الذين صلحت ظواهرهم وبواطنهم، فنجيناه؛ جزاء على صلاحه، كما أهلكنا قريته؛ عقابًا على فسادهم‏.‏

‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏نوحًا‏}‏، وقدّم هؤلاء عليه؛ لتعلقهم بإبراهيم، أي‏:‏ خبره، ‏{‏إِذْ نادى‏}‏ أي‏:‏ دعا الله تعالى على قومه بالهلاك، أي‏:‏ اذكر نبأه الواقع وقت دعائه، ‏{‏من قبلُ‏}‏ هؤلاء المذكورين، ‏{‏فاستجبنا له‏}‏ دعاءه الذي من جملته قوله‏:‏ ‏{‏أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر‏}‏ ‏[‏القَمَر‏:‏ 10‏]‏، ‏{‏فنجيناه وأهله‏}‏ المؤمنين به، من ولده وقومه، ‏{‏من الكرب العظيم‏}‏، وهو الطوفان وتكذيب أهل الطغيان‏.‏ وأصل الكرب‏:‏ الغم الشديد، ‏{‏ونصرناه‏}‏ نصرًا مستتبعًا للانتقام، ‏{‏من القوم الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي‏:‏ منعناه من إذايتهم، ‏{‏إِنهم كانوا قومَ سَوْءٍ‏}‏، تعليل لما قبله، ‏{‏فأغرقناهم أجمعين‏}‏، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم؛ لأن الإصرار على تكذيب الحق، والانهماك في الشر والفساد، مما يُوجب الإهلاك العام‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ نبي الله لوط عليه السلام لمَّا هاجر من أرض الظلمة إلى الأرض المقدسة، أعطاه الله العلم والحكمة‏.‏ فكل من هاجر من الغفلة إلى محل الذكر واليقظة، وهجر ما نهى الله عنه عوَّضه الله علمًا بلا تعلم، وأجرى على لسانه ينابيع الحكمة‏.‏ قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه‏:‏ إذا اعتقدت النفس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة، من غير أن يُؤدِّيَ إليها عالمٌ علمًا‏.‏ ومصداقه الحديث‏:‏ «من عمل بما يعلم، ورثه الله عَلْمَ ما لم يعلم»

ولمَّا أجهد نفسه في تغيير المنكر نجّاه الله من أذاهم وما لحق بهم، وكذلك نبيه نوح عليه السلام؛ لما دعا قومه إلى الله، وأجهد نفسه في نصحهم، نجاه الله من شرهم وجعل النسل من ذريته، فكان آدم الأصغر‏.‏ وهذه عادة الله تعالى في خواصه، يُكثر فروعهم، ويجعل البركة في تركتهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 82‏]‏

‏{‏وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ‏(‏78‏)‏ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏79‏)‏ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ‏(‏81‏)‏ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وداود‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏نوحًا‏}‏، أو معمول لاذكر، و‏{‏إذ يحكمان‏}‏‏:‏ ظرف للمضاف المقدر، أي‏:‏ اذكر خبرهما، و‏{‏إذ نفشت‏}‏‏:‏ ظرف للحكم‏.‏ ‏{‏ففهمناها‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏يحكمان‏}‏؛ فإنه في حكم الماضي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر خبر ‏{‏داودَ وسليمانَ إِذْ يحكمان‏}‏ أي‏:‏ وقت حكمهما ‏{‏في الحرث‏}‏ أي‏:‏ في الزرع، أو في الكرم المتدلي عناقيده، والحرث يطلق عليهما، ‏{‏إِذ نَفَشَتْ‏}‏‏:‏ دخلت ‏{‏فيه غنمُ القوم‏}‏ فأفسدته ليلاً، فالنفش‏:‏ الرعي بالليل، والهمَلُ بالنهار، وهما الرعي بلا راع‏.‏ ‏{‏وكنا لحُكمِهم‏}‏ أي‏:‏ لهما وللمتحاكمين إليهما، أو على أنَّ أقل الجمع اثنان، ‏{‏شاهدين‏}‏، كان ذلك بعلمنا ومرأى منا، لم يغب عنا شيء منه، ‏{‏ففهمناها‏}‏ أي‏:‏ الحكومة، أو الفتوى، ‏{‏سليمانَ‏}‏، وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان‏.‏

وقصتهما على ما قال ابن عباس وغيره‏:‏ أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما‏:‏ صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع‏:‏ إنَّ هذا نفشت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فلم تُبق منه شيئًا، فقال له داود‏:‏ اذهب فإن الغنم لك، ولعله استوت قيمتاهما- أي‏:‏ قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث- فخرج الرجلان على سليمان، وهو بالباب، وكان ابن إحدى عشرة سنة، فأخبراه بما حكم به أبوه، فدخل عليه، فقال‏:‏ يا نبي الله؛ لو حكمت بغير هذا لكان أرفق بالفريقين، قال‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ يأخذ صاحبُ الغنم الأرضَ ليُصلحها، حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنمَ ينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا كمل الزرع، رُدت الغنم إلى صاحبها، والأرض بزرعها إلى ربها، فقال داود‏:‏ وُفقت يا بُني، وقضى بينهم بذلك‏.‏

والذي يظهر‏:‏ أن حكمهما- عليهما السلام- كان باجتهاد، ففيه دليل على أن الأنبياء يجتهدون فيما لم ينزل فيه وحي، فإنَّ قول سليمان عليه السلام‏:‏ «هذا أرفق»، وقوله‏:‏ «أرى أن تدفع‏.‏‏.‏‏.‏» الخ، صريح في أنه ليس بطريق الوحي، وإلا لبت القول بذلك، ولعله وجه حكم داود عليه السلام قياس ذلك على جناية العبد، فإنَّ العبد فيما جنى‏.‏ وإذا قلنا‏:‏ كان بوحي، يكون حكم سليمان ناسخًا لحكم داود عليه السلام‏.‏

وأما حُكْم إفساد المواشي للزرع في شرعنا‏:‏ فقال مالك والشافعي‏:‏ يضمن أربابُ المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار؛ للحديث الوارد في ذلك، على تفصيل في مذهب مالك فيما أفسدت بالنهار‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «العَجْماءُ جُرْحُها جُبَار»، ما لم يكن معها سائق أو قائد، فيضمن عنده‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا‏}‏ أي‏:‏ كل واحد منهما آتيناه حكمًا، أي‏:‏ نبوة، وعلمًا‏:‏ معرفة بمواجب الحكم، لا سليمان وحده‏.‏

وفيه دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح في علمه ولا يرفع عنه صفة الاجتهاد‏.‏

ثم بيَّن ما اختص به كل واحد منهما من المعجزات، فقال‏:‏ ‏{‏وسخَّرنا‏}‏ أي‏:‏ ذللنا ‏{‏مع داود الجبالَ‏}‏، حال كونها ‏{‏يُسَبِّحْنَ‏}‏ أي‏:‏ مسبحات؛ ينزهْنَ الله تعالى بلسان المقال، كما سبّح الحصا في كف نبينا عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏و‏}‏ سخرنا له ‏{‏الطير‏}‏؛ كانت تسبح معه‏.‏ وقدَّم الجبال على الطير؛ لأن تسخيرها وتسبيحها أغرب وأدخل في الإعجاز؛ لأنها جماد‏.‏ قال الكواشي‏:‏ كان داود إذا سبّح سبّح معه الجبالُ والطير، وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر، وكان إذا فتَر من التسبيح، يُسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير؛ لينشط في التسبيح ويشتاق إليه‏.‏ ورُوي أنه كان إذا سار سارت الجبال معه مسبحة، قال قتادة‏:‏ «يُسبحن»، أي‏:‏ يصلين معه إذا صلى، وهذا غير ممتنع في قدرة الله تعالى‏.‏ وفي الأثر‏:‏ «كان داود يمرُّ، وصِفَاح الروحاءُ تجاوبه، والطير تساعده»‏.‏ ‏{‏وكنا فاعلين‏}‏ بالأنبياء أمثال هذا وأكثر، فليس ذلك ببدع منا ولا صعب على قدرتنا‏.‏

‏{‏وعلّمناه صنعةَ لَبُوسٍ‏}‏ أي‏:‏ صنعة الدروع‏.‏ واللبوس لغة في اللباس، والمراد‏:‏ الدرع، ‏{‏لكم‏}‏ أي‏:‏ نافع لكم، ‏{‏ليُحْصِنَكُم‏}‏ أي‏:‏ اللبوس، أو داود‏.‏ وقرئ بالتأنيث، أي‏:‏ الصنعة، أو اللبوس بتأويل الدرع‏.‏ وقرئ بنون العظمة، أي‏:‏ الله تعالى، وهو بدل اشتمال من «لكم»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من بأسكم‏}‏ أي‏:‏ من حرب عدوكم، أو من وقع السلاح فيكم، ‏{‏فهل أنتم شاكرون‏}‏ الله على ذلك‏؟‏ وهو استفهام بمعنى الأمر؛ للمبالغة والتقريع‏.‏

ثم ذكر ما اختص به سليمان عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريحَ‏}‏ أي‏:‏ وسخرنا له الريح‏.‏ وإيراد اللام هنا، دون الأولى؛ للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت، فإن تسخير ما سخر لسليمان عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي والامتثال لأمره ونهيه، بخلاف تسخير الجبال، لم يكن بهذه المثابة، بل بطريق التبعية والاقتداء‏.‏ حال كون الريح ‏{‏عاصفةً‏}‏ شديدة الهبوب، من حيث إنها كانت تقطع مسافة بعيدة في مدة يسيرة، وكانت رُخاء في نفسها، طيبة، وقيل‏:‏ كانت رُخاء تارة، وعاصفة أخرى، على حسب ما أراد منها‏.‏ أو رُخاء في ذهابه وعاصفة في رجوعه؛ لأن عادة المسافرين‏:‏ الإسراع في الرجوع، أو عاصفة إذا رفعت البساط ورخاء إذا جرت به‏.‏

‏{‏تجري بأمره‏}‏؛ بمشيئة سليمان، ‏{‏إِلى الأرض التي باركنا فيها‏}‏ بكثرة الأنهار والأشجار والثمار، وهي الشام‏.‏ وكان منزله بها، وتحمله إلى نواحيها‏.‏ قال وهب‏:‏ كان سليمان إذا خرج من منزله عكفت عليه الطير، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره، وكان غزّاءً؛ لا يقصر عن الغزو، فإذا أراد غزوًا أمر فضرب له بخشب، ثم يُنصب له على الخشب، ثم حَمَلَ عليه الناس والدواب وآلة الحرب، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف فدخلت تحت الخشب فاحتملته، فإذا استقلت، أمر الرخاء فمرت به شهرًا في روحته وشهرًا في غدوته، إلى حيث أراد‏.‏

ه‏.‏ ‏{‏وكُنَّا بكل شيء عالمين‏}‏ أي‏:‏ أحاط علمنا بكل شيء، فنُجري الأشياء على ما سبق به علمنا، واقتضته حكمتنا‏.‏

‏{‏ومن الشياطين‏}‏، قيل‏:‏ لمَّا ذكر تسخير الريح- وهي شفافة لا تعقل- ذكر ما هو شفاف يعقل، وهم الشياطين، مع سرعة الحركة في الكل، أي‏:‏ وسخرنا له من الشياطين ‏{‏مَن يغوصون‏}‏ في البحار، ويستخرجون ‏{‏له‏}‏ من نفائسه، كالدر والياقوت، ‏{‏ويعملون عملاً دون ذلك‏}‏ أي‏:‏ غير ما ذكر؛ من بناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات، وقيل‏:‏ الحمام، والنورة، والطاحون، والقوارير، والصابون، مما استخرجوه له، ‏{‏وكنا لهم حافظين‏}‏ أن يزيغوا عن أمره، أو يُبدلوا، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه، على ما هو مقتضى جبلتهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كان يحفظهم من أن يُفسدوا ما عملوا، وكان دأبهم أن يُفسدوا بالليل ما عملوه بالنهار‏.‏ وقيل‏:‏ وكَّل بهم جمعًا من الملائكة، وجمعًا من مؤمني الجن‏.‏ رُوي أن المُسَخَّر له عليه السلام‏:‏ كفارهم، لا مؤمنهم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الشياطين‏}‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏، قال الورتجبي‏:‏ بيَّن، سبحانه، أن الفضل متعلق بفضله، لا يتعلق بالصغر والكبر والشيخوخة والاكتساب والتعلم، إنما الفهم تعريف الله أحكام ربوبيته بنور هدايته، وإبراز لطائف علومه الغيبية، فحيث يظهر ذلك فهناك مواضع الفهوم من العلوم، فهو سبحانه منَّ على سليمان بعلمه، ولم يمنّ عليه بشيء خارج عن نفسه؛ من الملك، والحدثان أفضل من العلم؛ فإنَّ العلم صفة من صفاته تعالى، فلمَّا جعله متصفًا بصفاته منَّ عليه بجلال كبريائه‏.‏ ه‏.‏ وقال في قوله‏:‏ ‏{‏وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا‏}‏‏:‏ حُكمًا؛ معرفة بالربوبية، وعلمًا بالعبودية‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسخرنا مع داود الجبال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ ‏{‏ولسليمان الريح‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، لمّا كانا- عليهما السلام- مع المُكَوِّنِ كانت الأكوان معهما، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك»، وذكر في القوت‏:‏ أن سليمان عليه السلام لبس ذات يوم قميصًا رفيعًا جديدًا، ثم ركب البساط، وحملته الريح، فبينما هو يسير إذ نظر إلى عطفه نظرةً، فأنزلته الريح، فقال‏:‏ لِم أنزلتني ولم آمرك‏؟‏‏!‏ فقالت‏:‏ نطيعك إذا أطعت الله، ونعصيك إذا عَصَيْتَه‏.‏ فاستغفر وحملته‏.‏ ه بالمعنى‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏83‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر خبر ‏{‏أيوبَ‏}‏ عليه السلام ‏{‏إِذْ نادى ربَّه‏}‏‏:‏ دعاه‏:‏ ‏{‏إني‏}‏ أي‏:‏ بأني ‏{‏مسَّنيَ الضرُّ‏}‏ وهو بالضم‏:‏ ما يصيب النفس من مرض وهزال، وبالفتح‏:‏ الضرر في كل شيء، ‏{‏وأنت أرحمُ الراحمين‏}‏، تلطف في السؤال؛ حيث ذكر نفسَه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب؛ من كمال أدبه، فكأنه قال‏:‏ أنت أهل أن تَرحم، وأيوب أهل أن يُرحَم، فارحمه، واكشف عنه ضره الذي مسه‏.‏ عن أنس‏:‏ أنه أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة، ولم يشتك، وكيف يشكو، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ إنما اشتكى إليه؛ تلذذًا بالنجوى، لا تضررًا بالشكوى، والشكاية إليه غاية في القُرب، كما أن الشكاية منه غاية في البُعد، وسيأتي في الإشارة تكميله، إن شاء الله‏.‏ رُوي أن أيوب عليه السلام، كان من الروم، وهو أيوب بن أمُوص ابن تارَح بن رعويل بن عيص بن إسحاق‏.‏ وكانت أمه من ولد لوط عليه السلام اصطفاه الله للنبوة والرسالة، وبسط عليه الدنيا؛ فكان له ثلاثة آلاف بعير، وسبعة آلاف شاة، وخمسمائة فدان، يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد، وكان له سبعة بنين، وسبع بنات‏.‏ قاله النسفي‏.‏

زاد الثعلبي‏:‏ وكانت له المشيئةُ من أرض الشام كلها، وكان له فيها من صنوف المال ما لم يكن لأحد؛ من الخيل والبقر والغنم والحُمُر وغيره، وكان برًا تقيًا رحيمًا بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام، ويُكرم الضيف، ويُبلغ ابن السبيل، شاكرًا لأنعم الله، لا يصيب منه إبليس ما يصيب من أهل الغنى من الغفلة والغِرَّة، وكان معه ثلاثةً قد آمنوا به‏:‏ رجل من اليمن واثنان من بلده، كُهُولا‏.‏ قال وهب‏:‏ فسمع إبليس تَجَاوُبَ الملائكة بالصلاة عليه في السماء فحسده، فقال‏:‏ إلهي، عبدك أيوب أنعمتَ عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ولم تجرّبه بشدّة ولا بلاء، فلو جربته بالبلاء ليكفرنّ بك وبنعمتك، فقال له تعالى‏:‏ انطلق، فقد سلطتك على ماله، فجمع عفاريته وأخبرهم، فقال عفريت من الجن‏:‏ أُعطيتُ من القوة ما إذا تحوّلت إعصارًا من نار أحرقتُ كل شيء آتي عليه، فقال له إبليس‏:‏ دونك الإبل ورعاتها، فجاءها حتى وثبت في مراعيها، فأثار من تحت الأرض إعصارًا من نار فأحرقها وأحرق رعاءها‏.‏ فلما فرغ منها تمثل إبليس براعيها، وجلس على قَعُودٍ منها، فأتاه، وقال‏:‏ يا أيوب، إن ربك الذي عبدته قد أحرق إبلك ورُعَاءَها، فقال أيوب‏:‏ هو ماله، أعارنيه، يفعل فيه ما يشاء، فرجع إبليس خاسئًا، حين حمد أيوبُ ربه، فقال عفريت آخر‏:‏ عندي من القوة ما إذا صِحتُ لم يسمع صوتي ذو رُوح إلا خرجت روحه، قال له إبليس‏:‏ ائت الغنم ورعاءَها، فأتى، فصاح، فصارت أمواتًا ورعاتها، ثم خرج إبليس متمثلاً بقهرَمَان الرعاة، فقال له كمقالته في الإبل، فأجابه أيوب بمثل ما أجابه فيها، فرجع خاسئًا، فقال عفريت آخر‏:‏ عندي من القوة ما إذا تحولتُ ريحًا عاصفًا نسفتُ كل شيء أتيت عليه، قال إبليس‏:‏ فأتِ الفدادين والحرث، فجاءها، فَهبَّتْ ريح عاصفة فنسفت كل شيء، حتى كأنه لم يكن ثَمَّ شيء، فخرج إبليس متمثلاً بقهْرَمَان الحرث، فقال له مثل قوله الأول، وردَّ عليه مثل رده، حتى أتى على جميع ماله، وأيوب يحمد الله تعالى‏.‏

فقال إبليس‏:‏ إلهي؛ إن أيوب يقول‏:‏ إنك ما متعْتَهُ إلا بنفسه وولده، فهل تسلطني على ولده، فإنها الفتنة‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ قد سلطتك على ولده، فجاء إبليس فقلب عليهم القصر منكسين، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمُعلم الذي يُعلمهم الحكمة، وهو جريح، فقال‏:‏ يا أيوب؛ لو رأيت بنيك كيف عُذبوا‏؟‏ ونُكِّسوا على رؤوسهم، وسال دماغهم من أنوفهم، فلم يزل من قوله حتى رقَّ أيوبُ وبكى، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فصعد إبليس مسرورًا، ثم ذهب أيوب، فلما أبصر ذلك استغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة، بتوبته فبادروا إلى الله تعالى، وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئًا، فقال‏:‏ إلهي؛ إنما هوّن أيوب خطر المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فإني لك زعيم إن سَلَّطَّني على جسده ليكفرنّ بك، قال الله تعالى‏:‏ قد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله، فجاءه إبليس فوجده ساجدًا، فجاء من قِبل الأرض، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، فَوهِلَ، وخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليَاتِ الغنم، ووقعت به حكة لا يملكها، فحك بأظفاره، ثم بالمسُوح الخشنة، ثم بالحجارة، حتى نغل لحمه، وتغير، ونش، وتدود، فأخرجه أهل القرية، وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشًا، ورفضه الخلق كلهم، إلا ‏{‏رحمةً‏}‏؛ امرأته بنت إفراثيم بن يوسف عليه السلام، فقامت عليه بما يصلحه‏.‏

روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنَّ أيُّوبَ نبي الله لَبث به بَلاؤُه ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَة، فَرَفَضه الْقَرِيبُ والبَعِيدُ» الحديث، وقال كعب‏:‏ سبع سنين، وقيل‏:‏ ثلاث عشرة سنة، وما قاله- عليه الصلاة والسلام- إن ثبت، هو الصحيح‏.‏ وقال الحسن‏:‏ مكث أيوب مطرودًا على كناسة، في مزبلة بني إسرائيل سبع سنين وشهرًا، يختلف فيه الدود‏.‏ ويمكن الجمع بين الأقوال بأن الشدة كانت سبعًا والباقي مقدمات لها‏.‏

رُوِيَ أن امرأته قالت له يومًا‏:‏ لو دعوتَ الله عزّ وجلّ‏؟‏ فقال لها‏:‏ كم كانت مدة الرخاء‏؟‏ قالت‏:‏ ثمانين سنة‏.‏ فقال‏:‏ إني أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي‏.‏ ه‏.‏ ورُوي أن الدود أكل جميع جسده حتى بقي عظامًا نخرة، وهو مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله وحمده وشكره، فصرخ إبليس صرخة، وقال‏:‏ أعياني هذا العبد الذي سألتُ ربي أن يسلطني عليه، قالت له العفاريت‏:‏ أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة، ما أتيته إلا من قِبَلِ امرأته، فتمثل بها بصورة رجل طيب، وفي رواية الحسن‏:‏ في هيئة ليست كهيئة بني آدم، في أحسن صورة، فقال لها‏:‏ أين بعلك يا أمة الله‏؟‏ فقالت‏:‏ هو ذاك، يحك قروحه، ويتردد الدود في جسده، فقال لها‏:‏ أنا إله الأرض الذي صنعتُ بصاحبك ما صنعت؛ لأنه عبد إله السماء وتركني، فلو سجد لي سجدة واحدة لرددت لكما ما كان لكما‏.‏

وقال وهب‏:‏ قال لها‏:‏ لو أكل طعامًا ولم يسمّ عليه لعُوفيَ من البلاء، فأخبرت أيوب، فقال‏:‏ أتاك عدوُ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم، إن عافه الله، ليضربنها مائة ضربة‏.‏ ثم حلف لا يأكل لها طعامًا، فبقي مهملاً لا يأتي إليه أحد، وقال عند ذلك‏:‏ ‏{‏مسّني الضر‏}‏ من طمع إبليس في سجودي له، ‏{‏وأنت أرحم الراحمين‏}‏، فقيل له‏:‏ ‏{‏اركض برجلك‏}‏ فركض، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، فلم يبق من دائه شيء، وسقطت الدود من جسده، وعاد شبابه وجماله‏.‏ ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى، فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، وكانت امرأته «رحمة» حين حلف، تركته مدة، ثم ندمت وعادت، فوجدته في أحسن هيئة، فلم تعرفه، فقالت له‏:‏ أين الرجل المبتلى الذي كان هنا‏؟‏ قال‏:‏ أنا هو، شفاني الله، ثم عرفته بضحكه، فتعانقا، ثم أمره الله تعالى أن يأخذ جماعة من القضبان فيضربها ضربة واحدة ليبرّ في يمينه‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ تسليط الشيطان على بشرية الأنبياء الظاهرة‏:‏ جائز وواقع‏.‏ وأما الأمراض المنفرة، فإن كانت بعد التبليغ وتقرير الشرائع، فجائز عند بعضهم، وهو الصواب، جمعًا بين ما ثبت في الأخبار عن السلف وبين الدلائل العقلية في تنزيه الأنبياء- عليهم السلام-، لأن العلة هي تنفير الخلق عنهم، وبَعْد التبليغ فلا يضر، وقد ورد أن شُعيبًا عليه السلام عَمى في آخر عمره، وكذلك يعقوب، وكان بعد تبليغ الرسالة، فلم يضر‏.‏

ثم قال تعالى في حق أيوب عليه السلام‏:‏ ‏{‏فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرّ‏}‏؛ إنعامًا عليه، فلمّا قام من مرضه جعل يلتفت فلا يرى شيئًا مما كان له من الأهل، والمال، ثم أحيا الله أولاده بأعيانهم، ورزقه مثلهم، ورد عليه ماله، بأن أخلف له مثله، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناه أهلَه ومثلهم معهم‏}‏ وقيل‏:‏ كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان له‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ آتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، والأول هو ظاهر الآية، ردهم الله تعالى بأعيانهم؛ إظهارًا لكمال قدرته تعالى‏.‏

ثم قال ‏{‏رحمةً من عندنا‏}‏‏:‏ مفعول من أجله، أي‏:‏ آتينا ما ذكر لرحمتنا أيوب، ‏{‏وذكرى للعابدين‏}‏ أي‏:‏ وتذكرة لغيره من العابدين؛ ليصبروا كما صبر، ويُثابوا كما أُثيب، أو لرحمتنا العابدين، الذين من جملتهم أيوب، وذكرنا إياهم بالإحسان، وعدم نسياننا لهم‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب، في النفس أو في الأهل، كله رحمة، عظيمة، ومنَّة جسيمة، ويقاس عليه‏:‏ مفارقة الأحباب والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية، ويُسمى عند الصوفية‏:‏ التعرفات الجلالية؛ لأن الله تعالى يتعرف إليهم بها؛ ليعرفوه عيانًا، ولذلك تجدهم يفرحون بها، وينبسطون عند ورودها؛ لما يتنسمون فيها، ويجدون بعدها، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب، وطي مسافة البُعد بينهم وبين رب الأرباب، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة؛ لِمَا يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية؛ كالصبر والزهد والرضا والتسليم، وما ينشأ عنها، عند ترقيق البشرية، من تشحيذ الفكرة والنظرة، وغير ذلك من أعمال القلوب‏.‏

وفي الحكم‏:‏ «إذا فتح لك وجهة من التعرف، فلا تُبالي معها إن قلَّ عملك؛ فإنه ما فتحها لك إلاَّ وهو يريد أن يتعرف إليك منها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك‏؟‏»‏.‏ قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه‏:‏ معرفة الله تعالى هي غاية المطالب، ونهاية الأماني والمآرب، فإذا واجه اللهُ عبده ببعض أسبابها، وفتح له باب التعرّف له منها، فذلك من النعم الجزيلة عليه، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر، وما يترتب عليها من جزيل الأجر، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقرّبين، المؤدي إلى حقائق التوحيد واليقين، من غير اكتساب من العبد ولا تَعَمُّلٍ، والأعمالُ التي من شأنها أن يتلبس بها هي باكتسابه وتعمله، وقد لا يسلم من دخول الآفات عليها، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها، وقد لا يحصل له ما أمّله من الثواب عند مناقشة الحساب، وأين أحدهما من الآخرة‏.‏

ومثاله‏:‏ ما يُصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تُنَغِّصُ عليه لذات الدنيا، وتمنعه من كثير من أعمال البر، فإنَّ مرادَ العبد أن يستمر بقاؤه في الدنيا، طيَّبَ العيش ناعمَ البال، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفين؛ فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة، التي لا كثير مُؤْنَةٍ عليه فيها ولا مشقة، ولا تقطع عنه لذة، ولا يفوته شهوة، ومراد الله منه أن يُطهره من أخلاقه اللئيمة، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة، ويُخرجه من أَسْرِ وجوده إلى متسع شهوده، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام، إلا بما يُضادُ مراده، ويشوّش عليه معتادَه، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة، فإذا فَهِمَ هذا عَلِمَ أن اختيار الله له، ومرادَه منه، خيرٌ من اختياره لنفسه ومراده لها‏.‏

وقد رُوِيَ أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه‏:‏ «إني إذا أنزلت بعبدي بلائي، فدعاني، فماطلتُه بالإجابة، فشكاني، قلت‏:‏ عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك» ‏؟‏ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «قال الله تعالى‏:‏ إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده، أنشطته من عقالي، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل»

ثم نقل عن أبي العباس ابن العريف رضي الله عنه قال‏:‏ كان رجل بالمغرب يُدعى أبا الخيَّار، وقد عمّ جسده الجذامُ، ورائحة المسك تُوجد منه على مسافة بعيدة، لقيه بعضُ الناس، فقال له‏:‏ يا سيدي كأن الله تعالى لم يجد للبلاء مَحلاً من أعدائه حتى أنزله بكم، وأنتم خاصة أوليائه‏!‏‏!‏ فقال لي‏:‏ اسكت، لا تقل ذلك؛ لأنا لمّا أشرفنا على خزائن العطاء، لم نجد عند الله أشرف ولا أقرب من البلاء، فسألناه إِيّاه، وكيف بك لو رأيت سيّد الزهّاد، وقطبَ العباد، وإمام الأولياء والأوتاد، في غار بأرض طرطوس وجبالها، ولحمُه يتناثر، وجلده يسيل قيحًا وصديدًا، وقد أحاط به الذباب والنمل، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره على ما أعطاه من الرحمة، حتى يشدّ نفسه بالحديد، ويستقبل القبلة عامَّةَ ليله حتى يطلع الفجر‏.‏ ه‏.‏

وقد تكلم الصوفية في قول أيوب عليه السلام‏:‏ ‏{‏مسّني الضر‏}‏؛ هل شكى ضرر جسمه، أو ضرر قلبه من جهة دينه‏؟‏ قال بعضهم‏:‏ قيل‏:‏ إنه أراد النهوضِ إلى الصلاة فلم يستطع، فقال‏:‏ ‏{‏مسّني الضر‏}‏، وقيل‏:‏ إنه أكل الدود جميع جسده، حتى بقي عظامًا، فلما قصد الدودُ قلبَه ولسانَه غار على قلبه؛ لأنه موضع المعرفة والتوحيد، والنبوة والولاية، وأسرار الله تعالى، وخاف انقطاع الذكر، فقال‏:‏ ‏{‏مسّني الضر‏}‏، وقيل‏:‏ خاف تبدد همه وتفرق قلبه، وليس في العقوبة شيء أشد من تبدد الهم، فتارة يقول‏:‏ لعلي ببلائي مُعاقب، وتارة يقول‏:‏ بضري مُستدرج، فلما خاف تشتيت خاطِره عليه، قال‏:‏ ‏{‏مسّني الضر‏}‏‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ هذا المقام لا يليق بالأنبياء، وإنما يجوز على غيرهم؛ إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء‏!‏ وقال بعضهم‏:‏ قال‏:‏ مسني الضر من شماتة الأعداء، واقتصر عليه ابنُ جُزي، وفيه شيء؛ إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم، فلا يُبالون بخيرهم ولا شرهم، ولا مدحهم ولا ذمهم، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام-‏؟‏‏!‏

وقال القشيري «كان ذلك منه إظهارًا للعجز، لا اعتراضًا، فلا يُنافي الصبر، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة، ليكون أسوة‏.‏ وقال‏:‏ إن جبريل أمره بذلك، وقال له‏:‏ إن الله يغضبُ إن لم يُسأل، وسيان عنده البلاء والعافية، فسَله العافية‏.‏

ويقال‏:‏ إن أيوب كان مُكَاشَفًا بالحقيقة، مأخوذًا عنه، وكان لا يُحِسُّ بالبلاء، فَسَتَر عليه، فردَّه إليه، فقال‏:‏ مَسني الضُّرُّ، وقيل‏:‏ أَدْخَل على أيوب تلك الحالة، فاستخرج منه تلك المقالة؛ ليظهر عليه سمة العبودية‏.‏ ه‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ سُئل الجنيد عن قوله‏:‏ ‏{‏مسّني الضر‏}‏، فقال عرّفه فاقة السؤال، ليمنّ عليه بكرم النوال، وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب ‏{‏مسّني الضر‏}‏ فبكى- عليه الصلاة والسلام- وقال‏:‏ والذي بعثني بالحق نبيًا ما شكى فقرًا نزل من ربه، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما كان في بعض الساعات وثب ليُصلي، فلم يستطع النهوض، فقال‏:‏ ‏{‏مسني الضر‏}‏ الخ‏.‏ ثم قال‏:‏- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ أكل الدود عامة جسده حتى بقي عظامًا نخرة، فكادت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دُبره، وما بقي إلا قلبه ولسانه، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه، فلما أحب الله له الفرج، بعث إليه الدودتين؛ إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه، فقال‏:‏ يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان، أذكرك بهما، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين‏.‏ ه‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رحمة من عندنا وذكرى للعابدين‏}‏‏:‏ تسلية لمن أصيب بشيء من هذه التعرفات الجلالية، وقد تقدم في أول الإشارة الكلام على هذا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 86‏]‏

‏{‏وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏85‏)‏ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏إِسماعيلَ‏}‏ بن إبراهيم، وكان أكبر من إسحاق، ‏{‏وإِدريسَ‏}‏ واسمه‏:‏ أخنوخ بن شيث بن آدم‏.‏ قاله النسفي ‏{‏وذا الكفل‏}‏ وهو إلياس، أو زكريا، أو يوشع بن نون، قلت‏:‏ كونه زكريا بعيد؛ لأنه سيذكره بخصُوصه بعدُ‏.‏ وسُمي ذا الكفل؛ لأنه ذو حظ من الله، والكفل‏:‏ الحظ‏.‏ أو تكفل بضعف عمل أنبياء زمانه، أو بصيام النهار وقيام الليل‏.‏ وقال أبو موسى الأشعري‏:‏ إنَّ ذا الكفل لم يكن نبيًا، ولكنه كان عبدًا صالحًا، تكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يُصلي لله تعالى، في كل يوم، مائة صلاة، فأحسن الله عليه الثناء‏.‏ ه‏.‏ وقال عمر بن عبد الله بن الحارث‏:‏ إن نبيًا من الأنبياء قال‏:‏ من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب‏؟‏ فقال شاب‏:‏ أنا، فمات ذلك النبي، فجلس ذلك الشاب يقضي بين الناس، فجاءه الشيطان في صورة إنسان؛ ليُغضبه وهو صائم، فضرب الباب ضربًا شديدًا، فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ رجل له حاجة، فأرسل له رجلاً، فلم يرض، ثم أرسل معه آخر، فلم يرض، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه إلى السوق، ثم خلاه وذهبَ، فسُمي ذا الكفل‏.‏ ه‏.‏

‏{‏كلٌّ من الصابرين‏}‏ أي‏:‏ كل واحد من هؤلاء موصوف بالصبر التام على مشاق التكليف وشدائد النوب، ‏{‏وأدخلناهم في رحمتنا‏}‏؛ في النبوة، أو في الآخرة، ‏{‏إنهم من الصالحين‏}‏ أي‏:‏ الكاملين في الصلاح الذي لا تحوم حوله شائبة الفساد، وهم الأنبياء، فإن صلاحهم معصوم من كدر الفساد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد مدح الله هؤلاء السادات بخصلتين، من تحقق بهما‏:‏ التحق بهم، وانخرط في سلكهم‏:‏ الصبر على مشاق الطاعة، وعلى ترك المعصية، وفي حال البلية‏.‏ والصلاح، وهو‏:‏ إصلاح الظاهر بالشريعة، وإصلاح الباطن بنور الحقيقة‏.‏ فمن تحقق بهاتين الخصلتين كان من المقربين مع النبيين والصديقين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏87‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏ذا النُّون‏}‏ أي‏:‏ صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام، ‏{‏إِذ ذهبَ مغاضِبًا‏}‏ أي‏:‏ مراغمًا لقومه، فارًا عنهم، وغضب من طول دعوته إياهم، وشدة شكيمتهم، وتمادي إصرارهم، فخرج مهاجرًا عنهم، قبل أن يُؤمر، وقيل‏:‏ وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم؛ لأجل توبتهم، ولم يشعر بها، فظن أنه كذبهم، فغضب من ذلك، فهو من باب المغالبة؛ للمبالغة؛ أو لأنه غضب لما رأى منهم من الإصرار، وغضبوا لمفارقته إياهم، وكان من حقه عليه السلام أن يصبر وينتظر الإذن الخاص من الله تعالى، فلما استعجل ابتلي ببطن الحوت، وقال ابن عباس‏:‏ قال جبريلُ ليونس عليه السلام‏:‏ انطلق إلى أهل نِينَوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم، قال‏:‏ ألتمس دابة، قال‏:‏ الأمر أعجل من ذلك، فانطلق إلى السفينة فركبها، فاحتبست السفينة فساهموا فسهم، فجاءه الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت‏:‏ إنا لم نجعل يونس لك رزقًا، إنما جعلناه لك حِرزًا، فالتقمه، ومرّ به على الأبُلة، ثم على دجلة، ثم مَرَّ به حتى ألقاه بنينَوَى‏.‏ ه‏.‏

وقال وهب بن منبه رضي الله عنه‏:‏ إنَّ يونس كان عبدًا صالحًا ضَيِّق الخلق، فلما حمل أثقال النبوة تفسخ منها تفسُّخَ الرّبَع تحت الحمل الثقيل، فقذفها وخرج هاربًا عنها، ولذلك أخرجه الله من أولي العزم، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت‏}‏ ‏[‏القَلَم‏:‏ 48‏]‏، أي‏:‏ لا تلق أمري كما ألقاه‏.‏ ه‏.‏ وأما قول الحسن‏:‏ مغاضبًا لربه، فلا يليق بمقام الأنبياء- عليهم السلام- إلا أن يحمل على أن خروجه بلا إذن كأنه مغاضب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فظنَّ أن لن نقْدِرَ عليه‏}‏ أي‏:‏ لن نضيق عليه، أو لن نقدر عليه بالعقوبة، فهو من القدرة، ويؤيده قراءة من شدَّد، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ دخلت يومًا على معاوية، فقال‏:‏ لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلا أرى لنفسي خلاصًا إلا بك، قال‏:‏ وما هي‏؟‏ فقرأ الآية‏.‏‏.‏‏.‏ فقال‏:‏ أو يظن نبي الله ألا يقدر عليه‏؟‏ قال‏:‏ هذا من القدر لا من القدرة‏.‏ ه‏.‏

وقيل‏:‏ إنه على حذف الاستفهام‏.‏ أي‏:‏ أيظن أن لن نقدر عليه، وقيل‏:‏ هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن يقدر عليه، أي‏:‏ تعامل معاملة من ظن أن لن نقدر عليه؛ حيث استعجل الفرار‏.‏ قلت‏:‏ لإعلاء مقامه كثرت مطالبته بالأدب، فحين خرج من غير إذن خاص؛ عُدَّ خروجه كأنه ظن ألا تنفذ فيه القدرة، وتمسك عليه السلام بالإذن العام، وهو الهجرة من دار الكفر، وهو لا يكفي في حق أمثاله، فعوقب بالسجن في بطن الحوت‏.‏

‏{‏فنادى في الظلمات‏}‏ أي‏:‏ في الظلمة الشديدة المتكاثفة كقوله‏:‏ ‏{‏ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البَقَرة‏:‏ 17‏]‏، أو في ظلمة بطن الحوت والبحر والليل‏:‏ ‏{‏أن لا إِله إِلا أنتَ‏}‏ أي‏:‏ بأنه لا إله إلا أنت، أو تفسيرية، أي‏:‏ قال‏:‏ لا إله إلا أنت، ‏{‏سبحانك‏}‏ أي‏:‏ أنزهك تنزيهًا لائقًا بك من أن يعجزك شيء، أو‏:‏ تنزيهًا لك عما ظننتُ فيك، ‏{‏إِني كنتُ من الظالمين‏}‏ لنفسي؛ بخروجي عن قومي قبل أن تأذن لي، أو من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للهلكة، وعن الحسن‏:‏ ما نجاه، والله، إلا إقراره على نفسه بالظلم‏.‏

‏{‏فاستجبنا له‏}‏ أي‏:‏ أجبنا دعاءه الذي دعا في ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه‏.‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذا الدُّعَاءِ إلاّ اسْتُجِيبَ لَهُ» ‏{‏ونجيناه من الغم‏}‏‏:‏ الذلة والوحشة والوحدة، وذلك بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات، وقيل‏:‏ بعد ثلاثة أيام، ‏{‏وكذلك نُنجي المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الإنجاء الكامل نُنجي المؤمنين من غمومهم، إذا دعوا الله، مخلصين في دعائهم‏.‏ وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «اسم الله الذي إذا دُعي به أجب، وإذا سُئل به أعطى» دعوة يونس بن متى، قيل‏:‏ يا رسول الله، أليونس خاصة‏؟‏ قال‏:‏ «بل هي عامة لكل مؤمن، ألم تسمع قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك ننجي المؤمنين‏}‏» وهنا قراءات في ‏{‏نُنجي‏}‏، مذكورة في كتب القراءات، تركتها لطول الكلام فيها‏.‏

الإشارة‏:‏ من تحققت له سابقة العناية لا تُبعده الجناية، ولا تُخرجه عن دائرة الولاية، بل يؤدب في الدنيا بالابتلاء في بدنه أو ماله، على قدر الجناية وعلو المقام، ثم يُرد إلى مقامه‏.‏ وها هنا حكايات للصوفية- رضي الله عنهم- من هذا النوع، مِنْهَا‏:‏ حكاية خير النساج رضي الله عنه، قيل له‏:‏ أكان النسج صنعتك‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن كنتُ عاهدت الله واعتقدت ألا آكل الرطب، فغلبتني نفسي واشتريت رطلاً منه، فجلستُ لآكله، فإذا رجل وقف عليّ، وخنقني، وقال‏:‏ يا عبد السوء، أتهرب من مولاك- وكان له عبد اسمه‏:‏ «خير» أَبَقَ مِنْه، أَلقى الله شبهه عليَّ- فحملني إلى حانوته، وقال‏:‏ اعمل عملك، أمرني بعمل الكرباس- وهو القطن- فدليت رجلي لأنسجه، فكأني كنت أعمله سنين، فبقيت معه أشهرًا، فقمتُ ليلة إلى صلاة الغداة، وقلت‏:‏ إلهي لا أعود، فأصبحت، فإذا الشبه قد زال عني، وعُدتُ إلى صورتي التي كُنتُ عليها، فأُطلقت، فثبت عليّ هذا الاسم، فكان سببُه اتباع شهوتي‏.‏

ومنها قضية أبي الخير العسقلاني رضي الله عنه قال‏:‏ اشتهيتُ السمك سنين، ثم ظهر له من وجه حلال، فلما مد يده ليأكل، أخذت شوكة من عظامه إصبعَه، فذهبت في ذلك، فقال‏:‏ إلهي هذا لمن مد يده لشهوة من حلال، فكيف بمن مد يده لشهوة من حرام‏.‏

ومنها‏:‏ قضية إبراهيم الخواص رضي الله عنه قال‏:‏ كنت جائعًا في الطريق، فوافيت الرِّي- اسم بلدة- فخطر ببالي أن لي بها معارف، فإذا دخلتها أضافوني وأطعموني، فلمَّا دخلت البلد رأيت فيها مُنكرًا احتجت أن آمر فيه بالمعروف، فأخذوني وضربوني، فقلتُ في نفسي‏:‏ من أين أصابني هذا، على جوعي‏؟‏ فنُوديت في سري‏:‏ إنك سكنت إلى معارفك بقلبك، ولم تسكن إلى خالقك‏.‏

وأمثال هذا كثير بأهل الخصوصية، يُؤدبون على أقل شيء من سوء الأدب؛ لشدة قربهم، ثم يُردون إلى مقامهم‏.‏ ومن هذا النوع قصة سيدنا يونس عليه السلام؛ حيث خرج من غير إذن خاص، فأدَّبه، ثم رده إلى النبوة والرسالة، وقد كنتُ سمعت من بعض الأشياخ أن أيوب عليه السلام إنما أصيب في ماله، لأنه كان بجوار ماله كافر، فكان يداريه؛ لأجل ماله، فأصيب فيه وفي بدنه؛ تأديبًا وتكميلاً له‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ‏(‏89‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر خبر ‏{‏زكريا إِذ نادى ربَّهُ‏}‏ في طلب الولد، وقال‏:‏ ‏{‏ربِّ لا تذرني فَرْدًا‏}‏؛ وحيدًا بلا ولد يرثني، ثم ردّ أمره إليه؛ مستسلمًا، فقال‏:‏ ‏{‏وأنت خيرُ الوارثين‏}‏، فحسبي أنت، وإِنْ لم ترزقني وارثًا فلا أبالي؛ فإنك خير وارث، ‏{‏فاستجبنا له‏}‏ دعاءه، ‏{‏ووهبنا له يحيى‏}‏ ولدًا ‏{‏وأصلحنا له زوجه‏}‏ أي‏:‏ أصلحناها للولادة بعد عُقمها، أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلْقها‏.‏ وكانت قبل سيئة الخلق، ‏{‏إنهم‏}‏ أي‏:‏ ما تقدم من الأنبياء، ‏{‏كانوا يُسارعون في الخيرات‏}‏ أي‏:‏ إنما استحقوا الإجابة إلى مطالبهم، وأسعفناهم فيما أمَّلوا؛ لمبادرتهم أبواب الخير، ومسارعتهم إلى تحصيلها، مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير كله، وهو السر في إتيان‏:‏ ‏{‏في‏}‏، دون «إلى»، المشعرة بخلاف المقصود؛ من كونهم خارجين عن أصل الخيرات، متوجهين إليها، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 133‏]‏‏.‏

‏{‏و‏}‏ كانوا ‏{‏يدعوننا رغَبًا ورَهَبًا‏}‏؛ طمعًا وخوفًا، وهما مصدران في موضع الحال، أو المفعول له، أي‏:‏ راغبين في الثواب أو الإجابة، وراهبين من العقاب أو الخيبة، أو للرغبة والرهبة، ‏{‏وكانوا لنا خاشعين‏}‏‏:‏ متواضعين خائفين، أي‏:‏ إنما نالوا هذه المراتب العلية، واستحقوا هذه الخصوصية؛ لاتصافهم بهذه الأوصاف الحميدة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الغالب في وراثة الخصوصية الحقيقية أن تكون لغير ورثة النسب، وأما الخصوصية المجازية، التي هي مقام الصلاح أو العلم، فقد تكون لورثة النسب، وتكون لغيرهم‏.‏ والخصوصية الحقيقية هي مقام الفناء والبقاء، والتأهل للتربية النبوية، ولا بأس بطلب وارث هذه الخصوصية، لئلا ينقطع النفع بها‏.‏ وقد قيل، في قول الشيخ ابن مشيش رضي الله عنه‏:‏ اسمع ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا، إنه أشار إلى طلب الوارث الروحاني‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا يسارعون في الخيرات‏}‏، فيه إشارة إلى بيان سبب حصول الخصوصية؛ لأن بابها هو المسارعة إلى عمل الخيرات وأنواع الطاعات، وأوكدها ثلاثة‏:‏ دوام ذكر الله، وحسن الظن بالله، وبعباد الله‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير‏:‏ حسن الظن بالله، وحسن الظن بعباد الله» وقوله‏:‏ ‏{‏ويدعوننا رَغَبًا ورهبًا‏}‏، هذه حالة الطالبين المسترشدين المتعطشين إلى الله، يدعونه رغبًا في الوصول، ورهبًا من الانقطاع والرجوع، وقد تكون للواصلين؛ رغبًا في زيادة الترقي، ورهبًا من الوقوف أو الإبعاد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الرغب والرهب حاصلتان لكل مؤمن، إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطًا، وهو كفر، ولو لم تكن رهبة لكان أمنًا، والأمن كفر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏التي أحصنت فرْجَها‏}‏ على الإطلاق من الحلال والحرام، والتعبير عنها بالموصول؛ لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها‏.‏ ‏{‏فنفخنا فيها من رُّوحِنَا‏}‏ أي‏:‏ أجرينا روح عيسى فيه وهو في بطنها، أو نفخنا في درع جيبها من ناحية روحنا، وهو جبريل عليه السلام، فأحدثنا بذلك النفخ عيسى عليه السلام، وإضافة الروح إليه تعالى؛ لتشريف عيسى عليه السلام، ‏{‏وجعلناها وابنها‏}‏ أي قضيتهما، أو حالهما، ‏{‏آية للعالمين‏}‏، فإن من تأمل حالهما تحقق بكمال قدرته تعالى‏.‏ وإنما لم يقل آيتين، كما قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 12‏]‏؛ لأن مجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ وجعلناها آية وابنها كذلك، فآيةٌ مفعول المعطوف عليه، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ مَنْ حَصَّلَ التقوى في صغره، كان آية في كِبَرِهِ‏.‏ تقول العامة‏:‏ الثور الحراث في الربك يبان، وتقول الصوفية‏:‏ البداية مجلاة النهاية‏.‏ وقالت الحكماء‏:‏ الصغر يخدم على الكبر‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 94‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ‏(‏92‏)‏ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أمة‏}‏‏:‏ حال من ‏{‏أمتكم‏}‏ أي‏:‏ متحدة أو متفقة، والعامل فيه ومعنى الإشارة، والإشارة إلى طريق الأنبياء المذكورين قبلُ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنّ هذه‏}‏ الطريق والسيرة التي سلكها الأنبياء المذكورون، واتفقوا عليها، وهو التوحيد، هي ‏{‏أُمتكم‏}‏ أي‏:‏ ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها، ولا تخرجوا عنها، حال كونها ‏{‏أمةً واحدةً‏}‏، غير مختلفة فيما بين الأنبياء- عليهم السلام- وإن اختلفت شرائعهم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «الأنْبِيَاءُ أبناء عَلاَّتٍ، أُمهَاتُهمْ شتَّى، وأبوهم واحد» والعلات‏:‏ الضرائر، أي‏:‏ شرائعهم مختلفة، وأبوهم واحد، وهو التوحيد‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏وأنا ربكم فاعبدون‏}‏ أي‏:‏ ربيتكم؛ اختيارًا، فاعبدوني؛ شكرًا وافتخارًا‏.‏ ه‏.‏ والخطاب للناس كافة‏.‏

‏{‏وتقطعوا أمرهم‏}‏، أصل الكلام‏:‏ وتقطعتم في أمر دينكم وتفرقتم‏.‏ إلاَّ أن الكلام صرف إلى الغيبة، على طريقة الالتفات؛ ليَنْعي عليهم ما أفسدوه في الدين، والمعنى‏:‏ فجعلوا أمر دينهم فيما ‏{‏بينهم‏}‏ قِطَعًا، وصاروا أحزابًا متفرقة، كأنه يُنْهِي إلى أهل التوحيد قبائح أفعالهم، ويقول‏:‏ ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، الذي أجمعت عليه كافة الأديان‏؟‏ ثم توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ إِلينا راجعون‏}‏ أي‏:‏ كل واحد، من الفرق المتقطعة، راجع إلينا بالبعث، فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم‏.‏

ثم فصَّل الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏فمن يعملْ‏}‏ شيئًا ‏{‏من الصالحات وهو مؤمنٌ‏}‏ بالله ورسله وبما يجب الإيمان به‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏(‏وهو مؤمن، أي‏:‏ في المآل بأن يختم له به‏)‏، وكأنه يشير إلى الخاتمة؛ لأن من لم يختم له بالإيمان لا ثواب لأعماله، والعياذ بالله، ‏{‏فلا كُفْرَانَ لسَعْيِهِ‏}‏ أي‏:‏ لا حرمان لثواب عمله، بل سعيُه مشكور مقبول، فالكفران مَثلٌ في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثلٌ في إعطائه، وعبّر عن ذلك بالكفران، الذي هو ستر النعمة وجحدها؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عنه‏.‏ وعبّر عن العمل بالسعي؛ لإظهار الاعتداد به، ‏{‏وإِنّا له‏}‏ أي‏:‏ لسعيه ‏{‏كاتبون‏}‏؛ مُثبتون في صحائف أعمالهم، نأمر الحفظة بذلك، لا نغادر من ذلك شيئًا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الصوفية- رضي الله عنهم-، في حال سيرهم إلى الحضرة وسلوكهم في طريق التربية، مختلفون بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص‏.‏ وفي حال نهايتهم- وهو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان، وإشراق شمس العرفان، الذي هو مقام الإحسان، ويُعبِّرون عنه بالفناء والبقاء، وهو التوحيد الخاص- متفقون، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

عباراتنا شتى وحسْنُك واحد *** وكُلٌّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير

لأن ما كان ذوقًا ووجدًا لا يختلف، بل يجده كل من له ذوق سليم‏.‏ نعم تتفاوت أذواقهم على حسب مشاربهم، ومشاربُهم على حسب إعطائهم نفوسَهم وبيعها لله، وتتفاوت أيضًا بحسب التخلية والتفرغ، وبحسب الجد والاجتهاد، وكلهم على بصيرة من الله وبينة من ربهم‏:‏ نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم، آمين‏.‏